الديانة الصابئية هى احدى الديانات التوحيدية الشرقية، بل تعد أول وأقدم الديانات السماوية، يحتوى كتابهم المقدس "كنزا ربا" على الصحف التى أنزلها الله سبحانه وتعالى على انبيائهم آدم، وشيث بن آدم، وانوش بن شيث، وادريس، ونوح، وسام بن نوح، وإبراهيم، وزكريا، ويحيي بن زكريا عليهم جميعاً السلام. وتحوى هذه الصحف تعاليم تنظم حياتهم وعلاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ومع بعضهم البعض وسائر المخلوقات، ولتكون نبراساً للعلم والمعرفة والحكمة والعدل والسلام.
وعكس ما أشيع عنهم فإن الصابئة قوم موحدون، يؤمنون بالله واليوم الأخر، قال عنهم ياقوت الحموي بأنهم ملة يصل عمقها إلى شيث بن آدم. ويرجع ابن الوردي تاريخهم إلى النبي شيث (شيتل) بن آدم والنبي إدريس (هرمس) .. ويقول محمد الفرحاني في كتابه أقوام تجولت بينها فعرفتها: ان الصابئة أصحاب ديانة قديمة ولعلها أقدم ديانة موحدة عرفتها البشرية. ويقول البغدادى فى كتابه بلوغ الأرب فى معرفة احوال العرب: أن الصابئة انقسمت إلى طائفتين لكل طائفة منهم تشريعاتها الخاصة؛ فمنهم من كان يصوم شهر رمضان، ويستقبل الكعبة في الصلاة، ويعظم مكة، ويحجون البيت كل عام، ويحرمون الميتة والدم والخنزير، ويحرمون من ذوي القرابة في الزواج ما يراه الإسلام محرماً. ويقول الشهرستانى فى كتابه الملل والنحل بأن الصابئة يحرمون أكل الكلب وكل ما له مخلب من الطير، وينهون عن السكر في الشراب ويأمرون بالاختتان، والزواج بولي وشهود، ولا يُجيزون الطلاق إلا بحكم حاكم، ولا يجمعون بين امراتين، وكان من شرائعهم رجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق اليمنى، والقصاص من القاتل.
وترتكز الديانة الصابئة على "خمسة أركان أساسية" هي التوحيد بالحي الأزلي واحد أحد، الصباغة والتطهر، الوضوء والصلاة، الصوم، الصدقة والزكاة.
التوحيد أو الشهادة:
وتسمى باللغة المندائية (سهدوثا اد هيي) أي شهادة الحي.. هو الاعتراف بالحي العظيم (هيي ربي) خالق الكون بما فيه، ويصفونه بصفات مقدسة لاتختلف عن ما ورد في الكتب المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيل والقران، مثل الرحيم، الرحمن، القوي، المخلص، الذي لايرى ولا يحد، العظيم، المحب.. الخ
وقد ورد في كتابهم المقدس (كنزا ربا) ما يلي: "باسم الحيّ العظيم ( البسملة فى المندائية): هو الحي العظيم، البصير القدير العليم، العزيز الحكيم * هو الأزلي القديم، الغريب عن أكوان النور، الغني عن أكوان النور *هو القول والسمع والبصر، الشفاء والظفر، والقوة والثبات، مسرة القلب، وغفران الخطايا. مسبح ربى بقلب نقى"
أما عن الشهادة الصابئية فهى كالتالى:
"باسم الحيّ العظيم .. مَـوجـود الحيّ * مـَوجُـود الـرَّب * مَـوجـود عـارف الـحَـيـاة * بـِـشـَـهـادة الحَـيّ * بـِـشـَـهـادة ملك النور السامي * الله الحيّ الازلي الـَّـذي تــَـكـَّـون مـِـن نـَـفـْـسِــه * الذي لا بـاطل ولا مـُبـطِـل لاسْـمـَـه شيء * جل جلالك يا الله * جل جلالك يا رَّبي * جل جلالك يا عارف الحياة * والحيّ المُزكي"
الصباغة:
وتسمى (مصبتا) باللغة المندائية. ولقد جاءت تسمية الصابئة من جذر هذه الكلمة لغة ومفهوما، وتعني الارتماس والتطهر بالماء الجاري، وهذا الطقس يعتبر عماد الديانة المندائية وركنها الأساسي، وهو فرض عين واجب على الصابئي ويرمز للارتباط الروحي بين العالم المادي والروحي والتقرب من الله. والصباغة لديهم تجري في المياه الجارية الحية وجوبا للخلاص والتوبة ولغسل الذنوب والخطايا القصدية وغير القصدية. وطقس التعميد المندائي محتفظ إلى الآن باصوله القديمة، وهو نفسه الذي نال به المسيح عيسى بن مريم التعميد على يد النبيي يحيي بن زكريا (يوحنا المعمدان) عليهم جميعا السلام.
الصلاة: .
وتدعى بالمندائية (براخا) وتعني المباركة أو التبريكات. وهي لديهم فرض واجب على الفرد المؤمن، وتعد أحد الأركان الأساسية للعبادة، يصلى الصابئون فى اليوم خمس مرات حيث ورد فى كتابهم المقدس: " بسم الحى العظيم.. علمهم الصلاة يقيمونها مسبحين لملك النور السامى ثلاث مرات فى النهار، ومرتين فى الليل ". وهذه الصلوات الخمس ثلاثة منها أساسية؛ الأولى عند الفجر ومقدارها ( 8 ) ركعات في كل ركعة(3)سجدات، الثانية عند الظهيرة ومقدارها (5 ) ركعات في كل ركعه (3) سجدات، والثالثة قبل غروب الشمس ومقدارها (5 ) في كل ركعة (3) سجدات. وقد ورد فى كتابهم المقدس كنزا ربا: "بسم الحي العظيم.. مع انفلاق الفجر تـنهضون * وإلى الصلاة تـتوجهون * وثانية في الظهر تـصلـّـون * ثم صلاة الغـروب * فبالصلاة تـتطهر القلوب * وبها تغـفـر الذنوب". وتقع بين الصلوات الثلاث الأساسية صلوات تعرف عند الصابئين بالرهميات (رهمى = رحمة)، أى صلوات الرحمة وطلب المغفرة من الخطايا والذنوب.
وتسبق الصلاة طقس صغير يقام بالماء الجاري يدعى (الرشاما – الرسامة) يقوم مقام الوضوء عند المسلمين، وهو عبارة عن غسل الاعضاء الرئيسية في الإنسان بالماء الجاري مع ترتيل مقطع ديني صغير، فيغسل يديه قائلاً: "باسم الحي العظيم أطهر يدى بالصلاح، وشفتى بالإيمان؛ لينطقا كلام النور، وليجعل ضميرى نقياً مؤمناً بالصلاح"، ويغسل وجهه ثلاث مرات قائلاً: " تبارك اسمك سبحانك، ومسبح اسمك سبحانك"، ثم يأخذ بيده الماء ويجمع أصابع يده اليمنى، ويمررها على جبهته، من بداية صدغه الأيمن حتى نهاية صدغه الأيسر قائلاً: "ارتسم برسم الحياة اسم الحى"، ثم يغمس سبابته ثلاث مرات في الماء، ثم ينظف أذنيه قائلاً: "اذناي تصغيان لاقوال الحي"، ثم يستنشق الماء ثلاث من راحته مردداً في كل مرة :"لتشم انفى رائحة الحياة"، ثم يتمضمض ثلاث مرات بيده اليمنى قائلاً :" ليمتلئ فمي بالصلوات والتسبيحات"، ويلفظ الماء إلى الجهة اليسرى، ثم يغسل ركبتيه ثلاث مرات قائلاً:" لتبارك ركبتاى الحي العظيم ولتسجد له"، ثم يغسل بعد ذلك ساقيه ثلاث مرات قائلاً:"لتتبع ساقاى سبل الحق والإيمان"، وأخيراً يغمس قدمه اليمنى فى النهر مرتين، واليسرى مرة واحدة. ومما يفسد الوضوء: البول والغائط، وخروج الريح، ولمس الحائض، والنفساء، وأكل شئ قبل الصلاة، ولايجوز الجمع بين صلاتين بوضوء واحد، وإن لم يفسد الوضوء.
الصوم:
ويسمى بالمندائية (صوما ربا) أي الصيام الكبير. والصيام في مفهوم الصابئة هو الكف والامتناع عن كل مايشين الإنسان وعلاقته مع الرب واخوانه البشر.. أي الصيام أو الامتناع عن كل الفواحش والمحرمات. ويحفظون عن يوحنا المعمدان قوله لهم:"وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه ُصرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريحاً، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
وفي كتاب الصابئة كنزا ربا: "بسم الحي العظيم..أيها المؤمنون بي صوموا الصوم الكبير* صوم القـلب والعـقـل والضمـيـر * لِـتـَـصُم عـيونكم، وأفواهكم، وأيديكم* لا تغـمز ولا تـَـلمز * لا تـنظـروا إلى الشّـر ولا تـَـفـعـلوه * والباطل لا تسمعوه * ولا تنصتوا خلف الأبواب * ونزهوا أفواهكم عن الكذب * والزيف لا تقربوه * أمسكوا قلوبكم عن الضغينة والحسد والتفرقة * أمسكوا أيديكم عن القتل والسرقة * أمسكوا أجسادكم عن معاشرة أزواج غيركم* فـتلك هي النار المحرقة * أمسكوا ركبكم عن السجود للشيطان وللأصنام الزيف * أمسكوا أرجـلكم عن السير إلى ما ليس لكم * إنه الصوم الكبير فلا تكسروه حتى تفارقوا هذه الدنيا".
ولديهم أيضا مايدعى بالصيام الصغير.. وما هو إلا تذكرة للإنسان بصيامه الأكبر.. ويكون بالكف عن تناول لحوم الحيوانات وذبحها خلال أيام معينة من السنة يبلغ مجموعها 33 يوم.. لكون أبواب الشر مفتوحة على مصراعيها، فتقوى فيها الشياطين وقوى الشر، لذلك يطلقون عليها أيام مبطلة.
الصدقة:
وتسمى بالمندائية ( زدقا) وهى من اخلاقيات المؤمن ، وواجباته تجاه اخيه الإنسان والخلق باسره. وتشترط في الصدقة ان تعطى بالسر، لان المجاهرة في إعطاء الصدقة تفسد ثوابها. فقد جاء في الكنزا ربا ما يلي: "باسم الحي العظيم: أعطوا الصدقات للفقراء واشبعوا الجائعين واسقوا الظمأن واكسوا العراة* لان من يعطي يستلم* ومن يقرض يرجع له القرض". وجاء أيضا في نفس الكتاب: "ان وهبتم صدقة ايها المؤمنون، فلا تجاهروا* ان وهبتم بيمينكم فلا تخبروا شمالكم* وان وهبتم بشمالكم فلا تخبروا يمينكم *كل من وهب صدقة وتحدث عنها كافر لا ثواب له".
فنجد أن هذه الديانة السماوية تتميز بتعاليمها الصوفية التوحيدية الحنيفية السمحة، وتعتبر واحدة من الديانات الإبراهيمية الكريمة، التى تدعو للإيمان بالله الواحد الأحد وأنبيائة ورسلة وملائكته واليوم الآخر.
ورغم انتشار الصابئون تاريخيًا فى شتى مدن الشرق القديم فى العراق والشام والأردن وفلسطين، خاصة على ضفاف الأنهار حيث سكنوا فى تجمعات على طول المناطق المحاذية لضفاف دجلة والفرات والأردن، وعاشوا فى مختلف مدن فلسطين كالقدس، وسكنوا وبنوا مدينة حران الشهيرة حيث نزح اليها جزء منهم مع نبى الله ابراهيم عليه السلام؛ بعد تعرضهم للإضطهاد والأذى من قبل النمرود حاكم بلاد مابين النهرين حينها، وامتد إنتشارهم شمالاً الى هضبة الأناضول فى تركيا، إلا أنهم عاشوا فى مصر القديمة على ضفاف نهر النيل وتركوا خلفهم أثارًا لم يمحيها الزمن من جداريات ومنحوتات تجسد حال المصرى القديم حال الوضوء تارة، والصلاة والسجود تارة اخرى. لتشهد آثارهم التى خلفوها على كذب المؤرخين وادعائهم الباطل بوثنية المصريين القدماء، بل وتكون خير دليل على أن المصرى القديم كان مؤمن بالله الواحد الأحد.