بقلم صفاء أحمد محمود
مدير تحرير رابطة أطوار للسيدات العرب بالعراق
أرض ... بلا عنوان !! حكاية ( ندى )
هممت لأتخذ من مضجعي ملجأ، يلملم أشلاء جسدي المنهك، بعد يوم طويل مليء بالإرهاق الشديد، كنت على هامش الغرفة أقف بجوار الباب كانت الإضاءة خافتة أمسكت بكوب ماء كان على منضدة قريبة مني وحين لامس شفاهي إرتعشت يداي وسقط الكوب على الأرض شعرت بعدم إتزان، كدت أسقط أنا الأخرى لولا أن إتكأت سريعا على كرسي قريب شعرت بغثيان شديد نظرت لسقف الغرفة محدقة عيناي لم أر جيدا، فأخذت أفتح وأغلق جفناي دون جدوى، استجمعت قواي حتى استطعت أن أقف على قدماي التي لم أعد أشعر بهما، وصلت إلى سريري بصعوبة بالغة وحين لامست يداي وسادتي، ارتميت بين أحضانها أغمضت عيني .. وأنا على وشك السبات، علت أصوات على مسامعي ليس لها وجود، ضجيج يكاد يمزق عقلي، أصوات تعلو وتهبط .. متناغمة، منتظمة، أحدهم يصرخ بقوة .. والآخر ممسكا مطرقة يكاد يهشم بها رأسي .. وها أنا أقف على مسرح داخل دار أوبرا أضع يداي على أذني، أصرخ بدون صوت مسموع ولكن لا أحد يسمعني، لا أحد يشعر بما أشعر به .. فالجميع ينظر إلي ويبتسم إبتسامة صفراء مليئة بالخبث، نظرات لم أشعر من خلالها سوى أنني داخل قفص حديدي، ضاق صدري إرتفعت أنفاسي، شعرت بأنني أختنق، لم أتمكن من الراحة في تلك الليلة، وفي كل ليلة يحدث لي هذا الشيء الغريب .. أيقنت أنه لا جدوى من تلك المحاولات البائسة أن أسرق بعض الدقائق لكي أنام، نهضت من مضجعي وتحسست فراشي أبحث عن هاتفي، بصعوبة جمعت قواي مرة أخرى واعتصرت أفكاري، حتى تذكرت ما الذي أريده من الهاتف، إنني أريد أن أتواصل مع طبيبي، استخدمت خاصية الصوت .. وأخذت شفتاي المجهدة تتحرك وتنطق اسم الدكتور ( رائد غنيم ) وعلى الفور تم الاتصال، وعندما سمعت صوته يرد على الهاتف كدت أصاب بالجنون، أخذت أتحدث بصوت وصل عنان السماء، أتذكر أنني كنت أقول في هذه الأثناء أريد أن أنام .. لا أستطيع أن أرتاح .. يجب أن تأتي فورا، لم أسمع منه حرفا فهو يعلم جيدا حالتي كيف تكون عندما أصل إلى هذا الحد من الهيستيريا، سقط هاتفي من يدي مثلما سقط الكوب، جسدي يرتعش بشدة وكأنه تعرض لكهرباء ذات فولت مرتفع، يداي .. لم أعد أسيطر عليها، لم أعد أتحمل، ذراعاي يرتجفان فضممت ذراعي إلى جسدي البالي .. لحظات من الترقب داخل الغرفة العلوية ..، هي غرفتي والتي تطل على فيلا، وطريق مغلق منذ سنوات .. أقصد منذ وقوع الكارثة، فكلما وقفت في الشرفة ،لم تسقط عيني سوى على تلك الشرفة المقابلة في الفيلا المهجورة، وأتذكر كل شيء وكأنه وقع للتو .. أراها تقف هناك .. تستنجد بالمارة، تستغيث، أتذكر كلماتها جيدا، كانت تقول إنقذوني أنا هنا في الطابق الأخير .. أنا هنا إنقذوني .. أنا زوجة المهندس ( أكرم ذو الفقار ) المخطوف في كندا من قبل العصابات الدولية .. إنقذوني .. لقد اقتحموا علي الفيلا وصعدوا على السلم .. هم واقفون على باب الغرفة، إنقذوني .. أما أنا فكنت أقف في شرفتي، أنظر إليها في ذهول .. ولم أحرك ساكنا ولكني أدركت الخطر الذي حل بها فأحضرت هاتفي سريعا، أطلب لها النجدة .. وسط الحالة الغريبة واللا مبالاه من المارة، فالجميع كان ينظر فقط إلى مصدر الصوت، ولم يهم أحدا بالدخول أو حتى الصعود لإنقاذها
ولسان حالهم يقول: ليس شأني ..، رجعت إلى شرفتي وفجأة علا صوتي .. ما الذي يحدث، هل تعرض لك لصا!!؟ أم ماذا؟ فنظرت إلي وكأنها كانت تائهة في صحراء منذ أيام تريد أن ترتوي .. نعم ملامحها كانت ظمئى ليسمعها أحد، فاتجه بصرها نحوي وهي تقول: تم إختطاف زوجي في كندا هو المهندس ( أكرم ذو الفقار ) بسبب عمله، يريدون أخذ مشاريعه لحسابهم .. هم عصابة دولية، هكذا كانت ترد بكلمات غير مرتبة، وكأنها تريد أن ترسل رسائل مهمة في وقت لا تملك منه إلا لحظات، كانت تقول: لن أسلم أحد أي شيء حتى لو دفعت حياتي ثمنا لها، لن أفصح عن الرقم السري .. لن .... وفجأة دخل عليها الغرفة أحدهم، كان ملثما لم يرى منه شيئا، ملابسه سوداء كاحلة كليلة غاب عنها القمر .. هو يدرك ما الذي سيفعله جيدا فمهمته كانت هي فقط .. إنهال عليها بالضرب المبرح، وهي مازالت تستغيث ولا مجيب، إنتابتني حالة من الذهول مرة أخرى ولكن إختلفت هذه المرة .. لأنها إختلطت بالخوف والشلل التفكيري، هو يضرب بكل قوته وهي تستغيث والمارة يسيرون دون تدخل ولكني تذكرت بسرعة أن الهاتف في يدي، إتصلت بالنجدة، حدثتهم بصوت مرتفع جدا .. وكأني أريد أن أقول لها لا تخافي، أنا معك والنجدة ستأتي وتساعدك وسيزول هذا الخطر الذي تتعريضن له، قلت للنجدة حينها: وأخذت أوصف الفيلا الكائنة على قارعة الطريق المشهور ...، كان هذا الطريق حينها حيوي جدا كان يضم العديد من الأماكن السياحة والبازارات الشهيرة في هذا الحي، وأنا مازلت أسترسل الحديث مع النجدة، قلت لهم: إنها إمرأة يبدو كأنها في العقد الرابع من العمر وصوتي يرتفع أكثر وأكثر، وإستغاثتها تعلو وأصواتنا تداخلت .. هي سارعت نحو الشرفة فانقبض قلبي فزعا عليها ظنا مني أنها ستلقي بنفسها لتنجو من بين يديه، ولكنه أوقفها وجذب شعرها بسرعة، وقف خلفها وضم ذراعه حول خصرها، ويده الأخرى أغلق بها فمها، في تلك اللحظة إلتقت عينانا أنا وهو، كان ينظر إلي وكأنه يتوعدني .. ثم نظرت إلى عيناها، أدركت أنها تعلم أنها النهاية .. لم تعد تنطق .. سكنت تماما، والآخرون ينتشرون في كل أرجاء الفيلا يبحثون عن أي شيء يتعلق بزوجها .. صعودا وهبوطا، ذهابا وإيابا، أصبح هناك عبث وفوضى بمحتويات الفيلا، ولكن هذا الشخص الذي بصحبتها كانت مهمته هي فقط، في كل هذه الأثناء واللحظات التي تمر أمام عيني سريعا فأنا مازلت أتحدث مع النجدة التي طالت استجواباتها .. أصف لهم هؤلاء الأشخاص وأحاول معرفة عددهم، وهو ما زال يتوعدني بنظراته .. وفجأة أطلق عليها النار من سلاحه الشخصي، .. طلقات، وصراخات، ونظرات متبادلة بيني وبينها، سقطت من يده على الأرض وأنا في ذهول!! جحظت عيناي وفتح فمي!! لم أنطق كلمة واحدة، وما زال الهاتف على أذني أستمع لأسئلة الشرطي التي لم يعد لدي إجابة عليها، وفجأة شعرت بلحظة إستفاقة، لم أقل للنجدة حينها سوى أنه قتلها .. لقد قتلها .. قتلها حقا، صرخت وقلت: لماذا لم تأتوا وعلت صرخات لا إرادية للمارة في ذلك الطريق .. لقد قتلها، ..
أما عن القاتل فكان يتعامل مع الموقف بكل حرية وكأنه يعلم أن لا أحد يجرؤ أو يستطيع الدخول إليهم ..، فجأة تخطاها ووقف في شرفتها ملوحا لي بيده يشير إلى رقبته .. إشارة تعني أنه سيقتلي أيضا مثلما قتلها بدم بارد، ثم نزل وذهبوا جميعا في سيارة كانت تنتظر منهم إشارة بإنتهاء المهمة، لا أدري هل وجدوا ما كانوا يبحثوا عنه أم لا، و لكن عم الصمت أرجاء المكان، وبقيت أنا واقفة في شرفتي أنظر إليها وانهمرت دموعي لا إراديا، شعرت بيأس شديد لم أستطيع إنقاذها مازالت هي أمامي ملقاة على الأرض، أتخيلها تستغيث وتصرخ وأغرقتني دموعي كرهت نفسي في تلك اللحظات لم أشعر قط بأنني مقيدة سوى في تلك الأوقات التي مرت علي، أشعر بإختناق شديد وكأن يده إلتفت حول عنقي، أما عنها فهي لم يمهلها القدر، ولم تساعدها مناجاتها وكأننا صرخنا في فضاء مليء بقلوب إتسخت من شدة سوادها بلا جدوى ..، بلا رحمة، وها قد وصلت الشرطة أخيرا .. عاينت الفيلا وطوقت المكان بالخارج، نقلوها إلى المشفى حتى يتم تشريحها ويكتب تقريرا طبيا بسبب الوفاة ، ومن ثم جاء فريق شرطي إلى مسكني، وأخذوا أقوالي ووثقوا شهادتي ..، منذ ذلك الحين هجرت فيلتها وأغلق أشهر طريق في ذلك الحي وأصبح طريق أشباح، وأصبحت أنا هكذا، كان القاتل يهاتفني يوميا يهددني، وأنا لا أرى شيئا في غرفتي غيرها تأتيني دائما، ليلا ونهارا كلما هممت بالنوم أراها، حين آكل أو أشرب أراها، حتى عندما آخذ حمامي الدافيء المعتاد أراها ..، فأنا أراها في لحظات الإسترخاء وفي كل اللحظات، خسرت عملي وخسرت الكثير من الناس بسبب حديثي عنها، أريد أحدا أن يساعدها، ولكن الجميع كانوا سلبيين للغاية، حين تأتيني لا أراها إلا تصرخ وتستغيث وأظل أنا الأخرى أصرخ أمامها .. لم يكن ذنبي مطلقا أنني لم أستطع مساعدتها ولكن ..! لا أدري فأنا متعبة، مجهدة، حالتي النفسية غير مستقرة، عانيت كثيرا بسببها، حتى أقنعني أخي ( هشام ) المتزوج خارج البلاد، فهو شقيقي الوحيد وهو الذي تحمل مسؤليتي بعد وفاة أمي التي رحلت بعد أبي بخمسة أعوام .. عشت بعد زواجه وسفره وحيدة في منزل العائلة مع بعض الخدم الذين لم يتركوني بعد رحيل أمي، قال لي ( هشام ): لابد أن تذهبي لطبيب، حتى تكوني بخير .. كنت أرفض دائما حتى تحدث أخي مع صديقه المقرب له ( هيثم ) وقال له: تولى ذلك الأمر وبالفعل من يومها أصبحت لا أستطيع النوم بدون مهدئات ولا أخذ منوم، وعندما علم الدكتور ( رائد غنيم ) بحالتي لم يتركني لحظة واحدة، فهو يعلم أنني لا أستطيع أن أذهب إلى مشفى وأمكث فيها، وأيضا لا أريد أن أغير منزلي كما إقترح علي أخي ، لأنني دائما أتذكر أمي هنا، .. جسدي مازال يرتجف، لقد مر على هذا الحادث أكثر من عشرة أعوام، ومازلت أسمعها تستغيث .. ومازال جسدي يرتعش، ومازلت أعيش على المهدئات حتى أستطيع النوم، ... وها قد وصل الدكتور ( رائد غنيم ) كنت أجلس على سريري، أضم جسدي بذراعاي .. كطفلة تائهة من أمها .. أرتجف، أصرخ تارة وأتوسل للقاتل أن يتركها تارة أخرى، دخل الدكتور ( رائد غنيم ) إلى الغرفة ومعه اثنان من مساعديه أعطاني حقنة لا أدري ما مدي مفعولها ولكن فجأة حملوني ونزلوا بي وفي هذه الأثناء لم أشعر بشيء سوى أنني أستقر بينكم هنا في هذه المشفى، ولم يعد يتواصل معي ( هشام ) أعتقد أنني نائمة منذ سنوات أو كان إتفاقا مع الدكتور على أن أتواجد هنا، حتى أكون تحت رعاية طبية، ولكن القاتل مازال في شرفتها مازال يتوعدني، مازال يحدق بي .. يقف هناك يشير بقتلي ومازالت هي تستغيت وتصرخ، .. رأيت الدكتور ( رائد غنيم ) يقف بعيدا وجائني مساعده أخبرني بأن الدكتور يريد أن يتحدث إلي في مكتبه، فذهبت متجهة نحوه، وحين وصلت جلست معه في هدوء تام، وقلت له: هل سأكون بخير؟!! هل سأعود مثلما كنت؟ هل سأخرج من هنا!!؟ قال لي: نعم .. تستطيعين الخروج الآن، ولكن الأفضل أن تكوني خارج البلاد وتبتعدي تماما عن ذلك المكان، لقد حدثني أخوكي ( هشام ) وهو يرحب جدا أن تكوني مع عائلته الصغيرة، فزوجته ( هدى ) ودودة وتحبك جدا وأخبرني أيضا أنه تحدث عنك كثيرا لأولاده ( لؤي ) و( أسيل ) ابتسمت للطبيب ووقفت من شدة فرحي: أحقا سأراهم ؟ أحقا سأرحل من هنا؟ قال لي: نعم وسأتابع حالتك من هنا، لأنك لم تتعاف بشكل نهائي ، ولكن ذلك سيساعدك على استرجاع صحتك مرة أخرى، لقد تخطيتي مرحلة الخطر، شكرت طبيبي ثم هاتف ( هشام ) وقال له: لقد أخبرتها وهي مرحبة جدا بذلك الأمر، فأخذت بسرعة وبعفوية شديدة الهاتف من يده كطفلة رأت أمها تهديها فستان العيد وقلت: أحقا سأراك مجددا!!؟؟ قال لي على الإسبوع القادم ستكونين هنا، في منزلك الثاني ...، وها أنا ذاهبة، ها أنا أصعد على سلم الطائرة لقد استقر جسدي الذي لم يعد بالي، على كرسي الطائرة أحلق نحو أوروبا، .. نحو السحاب .. أجهل مصيري القادم، وقلبي متعلق بمسقط رأسي، وسرير أمي .
قصة حقيقية ممزوجة بالخيال ولكن حقا لها صلة بأرض الواقع فهي بالفعل كانت هناك أمامي تصرخ في شرفتها تستغيث ...
-- استرسال الأحداث مستوحاة من وحي خيال المؤلفة ...
#Sofy